فصل: اللمحة الإعجازية الخامسة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبمثل عملية نشأة الكون تماما وبالقوانين التي تحكم دوران أجرامه حول محاورها، وفي مدارات لكل منها حول جرم أكبر منه تتم عملية اطلاق الأقمار الصنعية ومراكب الفضاء من الأرض إلي مدارات محددة حولها، أو حول أي من أجرام مجموعتنا الشمسية، أو حتي إلي خارج حدود المجموعة الشمسية، وذلك بواسطة قوي دافعة كبيرة تعينها علي الإفلات من جاذبية الأرض، من مثل صواريخ دافعة تتزايد سرعتها بالجسم المراد دفعه إلي قدر معين من السرعة، ولما كانت الجاذبية الأرضية تتناقص بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض، فإن سرعة الجسم المرفوع إلي الفضاء تتغير بتغير ارتفاعه فوق سطح ذلك الكوكب، وبضبط العلاقة بين قوة جذب الأرض للجسم المنطلق منها إلي الفضاء والقوة الدافعة لذلك الجسم أي سرعته يمكن ضبط المستوي الذي يدور فيه الجسم حول الأرض، أو حول غيرها من أجرام المجموعة الشمسية أو حتي إرساله إلي خارج المجموعة الشمسية تماما، ليدخل في أسر جرم أكبر يدور في فلكه.
وأقل سرعة يمكن التغلب بها علي الجاذبية الأرضية في اطلاق جرم من فوق سطحها إلي فسحة الكون تسمي باسم سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية، وحركة أي جسم مندفع من الأرض إلي السماء لابد وأن تكون في خطوط منحنية وذلك تأثرا بكل من الجاذبية الأرضية، والقوة الدافعة له إلي السماء، وكلتاهما تعتمد علي كتلة الجسم المتحرك، وعندما تتكافأ هاتان القوتان المتعارضتان يبدأ الجسم في الدوران في مدار حول الأرض مدفوعا بسرعة أفقية تعرف باسم سرعة التحرك الزاوي أو سرعة العروج والقوة الطاردة اللازمة لوضع جرم ما في مدار حول الأرض تساوي كتلة ذلك الجرم مضروبة في مربع سرعته الأفقية المماسة للمدار مقسومة علي نصف قطر المدار المساوي للمسافة بين مركزي الأرض والجرم الذي يدور حولها، ولولا معرفة حقيقة عروج الأجسام في السماء لما تمكن الإنسان من اطلاق الأقمار الصنعية، ولا استطاع ريادة الفضاء. فقد أصبح من الثابت أن كل جرم متحرك في السماء- مهما كانت كتلته- محكوم بكل من القوي الدافعة له وبالجاذبية مما يضطره إلي التحرك في خط منحن يمثل محصلة كل من قوي الجذب والطرد المؤثرة فيه، وهذا ما يصفه القرآن الكريم بالعروج، وهو وصف التزم به هذا الكتاب الخالد في وصفه لحركة الأجسام في السماء في خمس آيات متفرقات وذلك قبل ألف وأربعمائة سنة من اكتشاف الإنسان لتلك الحقيقة الكونية المبهرة علي النحو التالي:
{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون} [الحجر:14]
{يدبر الأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة:5]
{يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور} [سبأ:2]
{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف:33]
{يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد:4].
{من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج:3- 4]

.اللمحة الإعجازية الثالثة:

وقد وردت في قول الحق-تبارك وتعالى-: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}
ومعني سكرت أبصارنا أغلقت عيوننا وسدت، أو غشيت وغطيت لتمنع من الإبصار، وحينئذ لا يري الإنسان إلا الظلام، ويعجب الإنسان لهذا التشبيه القرآني المعجز الذي يمثل حقيقة كونية لم يعرفها الإنسان إلا بعد نجاحه في ريادة الفضاء منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين حين فوجيء بحقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدي سمكه مائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر، وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يري الشمس قرصا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد، لا يقطع حلوكة سوادها إلا بعض البقع الباهتة الضوء في مواقع للنجوم.
وإذا كان الجزء الذي يتجلي فيه النهار علي الأرض محدودا في طوله وعرضه بنصف مساحة الكرة الأرضية، وفي سمكه بمائتي كيلو متر، وكان في حركة دائبة دائمة مرتبطة بدوران الأرض حول محورها أمام الشمس، وكانت المسافة بين الأرض والشمس في حدود المائة وخمسين مليون كيلو متر، وكان نصف قطر الجزء المدرك من الكون يقدر باثني عشر بليون سنة ضوئية أي ما يساوي 114*2110 كيلو متر اتضحت لنا ضألة سمك الطبقة التي يعمها نور النهار، وعدم استقرارها لانتقالها بإستمرار من نقطة إلي أخري علي سطح الأرض مع دوران الأرض حول محورها، واتضح لنا أن تلك الطبقة الرقيقة تحجب عنا ظلام الكون، خارج حدود أرضنا ونحن في وضح النهار، فإذا جن الليل انسلخ منه النهار، واتصلت ظلمة ليلنا بظلمة الكون، وتحركت تلك الطبقة الرقيقة من النور لتفصل نصف الأرض المقابل عن تلك الظلمة الشاملة التي تعم الكون كله.
وتجلي النهار علي الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض بسمك مائتي كيلو متر فوق سطح البحر بهذا اللون الأبيض المبهج هو نعمة كبري من نعم الله علي العباد، وتفسر بأن الهواء في هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض له كثافة عالية نسبيا، وأن كثافته تتناقص بالارتفاع حتي لا تكاد تدرك، وأنه مشبع ببخار الماء وبهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض فتعلق بالهواء، وتقوم كل من جزيئات الهواء الكثيف نسبيا، وجزيئات بخار الماء، والجسيمات الدقيقة من الغبار بالعديد من عمليات تشتيت ضوء الشمس وعكسه حتي يظهر باللون الأبيض الذي يميز النهار كظاهرة نورانية مقصورة علي النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض في نصفها المواجه للشمس.
وبعد تجاوز المائتي كيلو متر فوق سطح البحر يبدأ الهواء في التخلخل لتضاؤل تركيزه، وقلة كثافته باستمرار مع الارتفاع، ولندرة كل من بخار الماء وجسيمات الغبار فيه لأن نسبها تتضاءل كذلك بالارتفاع حتي تكاد تتلاشي، ولذلك تبدو الشمس وغيرها من نجوم السماء بقعا زرقاء باهتة في بحر غامر من ظلمة الكون لأن أضواءها لا تكاد تجد ما يشتته أو يعكسه في فسحة الكون.
فسبحان الذي أخبرنا بهذه الحقيقة الكونية قبل اكتشاف الإنسان لها بألف وأربعمائه سنة، فشبه الذي يعرج في السماء بمن سكرت أبصاره فلم يعد يري غير ظلام الكون الشامل، أو بمن أعتراه شيء من السحر فلم يعد يدرك شيئا مما حواليه، وكلا التشبيهين تعبير دقيق عما أصاب رواد الفضاء الأوائل حين عبروا نطاق النهار إلي ظلمة الكون فنطقوا بما يكاد أن يكون تعبير الآية القرآنية دون علم بها: {إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}

.اللمحة الإعجازية الرابعة:

وتتضح في قوله تعالي: {فظلوا فيه يعرجون}
فالتعبير اللغوي ظلوا يشير إلي عموم الإظلام وشموله وديمومته بعد تجاوز طبقة النهار إلي نهاية الكون، بمعني أن الإنسان إذا عرج به إلي السماء في وضح النهار فإنه يفاجأ بظلمة الكون الشاملة تحيط به من كل جانب مما يفقده النطق أحيانا أو يجعله يهذي بما لا يعلم أحيانا أخري من هول المفاجأة.
ومن الأمور التي تؤكد ظلمة الكون الشاملة أن باطن الشمس مظلم تماما علي الرغم من أن درجات الحرارة فيه تصل إلي خمسة عشر مليون درجة مئوية أو يزيد، وذلك لأنه لا ينتج فيه سوي الاشعاعات غير المرئية من مثل أشعة جاما، والأشعات فوق البنفسجية والسينية.
أما ضوء الشمس فلا يصدر إلا عن نطاقها الخارجي فقط والذي يعرف باسم النطاق المضيء ولا يرى بهذا النور إلا في الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس، فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها} [الشمس:1- 4].

.اللمحة الإعجازية الخامسة:

وتتضح في إشارة الآيتين الكريمتين إلي الرقة الشديدة لغلالة النهار وذلك في قول الحق تبارك وتعالي {ولو فتحنا....لقالوا...} بمعني أن القول بتسكير العيون، وظلمة الكون الشاملة تتم بمجرد العروج لفترة قصيرة في السماء، ثم تظل تلك الظلمة إلي نهاية الكون، وقد أثبت العلم الحديث ذلك بدقة شديدة، فإذا نسبنا سمك طبقة النهار إلي مجرد المسافة بين الأرض والشمس لاتضح لنا أنها تساوي 200 كيلو متر \150,000,000 كيلو متر =1\750,000 تقريبا فإذا نسبناها إلي نصف قطر الجزء المدرك من الكون اتضح انها لا تساوي شيئا البتة، وهنا تتضح روعة التشبيه القرآني في مقام آخر يقول فيه الحق تبارك وتعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} [يس:37].
حيث شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة من ظلمة كل من ليل الأرض وليل السماء بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها، مما يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون، وأن النهار ليس إلا ظاهرة نورانية، عارضة، رقيقة جدا، لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم، وبتلك الدورة ينسلخ النهار تدريجيا من ظلمة كل من ليل الأرض وحلكة السماء كما ينسلخ جلد الذبيحة عن جسدها.
وفي تأكيد ظلمة السماء يقرر القرآن الكريم في مقام آخر قول الحق-تبارك وتعالى-: {أءنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} [النازعات:27- 29].
والضمير في أغطش ليلها عائد علي السماء، بمعني أن الله تعالي قد جعل ليل السماء حالك السواد من شدة اظلامه، فهو دائم الاظلام سواء اتصل بظلمة ليل الأرض في نصف الكرة الأرضية الذي يعمه الليل أو انفصل عن الأرض بتلك الطبقة الرقيقة التي يعمها نور النهار في نصف الأرض المواجه للشمس فيصفه ربنا تبارك وتعالى بقوله: وأخرج ضحاها أي أظهر ضوء شمس السماء لأحاسيس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معا في أثناء نهار الأرض، والضحي هو صدر النهار حين ترتفع الشمس ويظهر ضوؤها جليا للناس، بينما يبقي معظم الكون غارقا في ظلمة السماء.
ويؤكد هذا المعني قسم الحق تبارك وتعالي وهو الغني عن القسم بالنهار إذ يجلي الشمس أي يكشفها ويوضحها فيقول عز من قائل: {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها} [الشمس:1 – 4]
أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لأحاسيس المشاهدين لها من سكان الأرض، وهذه لمحة أخري من لمحات الإعجاز العلمي في كتاب الله تقرر أن ضوء الشمس لا يري إلا علي هيئة النور في نهار الأرض.
وأن الكون خارج نطاق نهار الأرض ظلام دامس، وأن هذا النطاق النهاري لابد أن به من الصفات ما يعينه علي إظهار وتجلية ضوء الشمس للذين يشهدونه من أحياء الأرض.
فسبحان الذي أنزل القرآن بالحق، أنزله بعلمه، وجعله معجزة خاتم أنبيائه ورسله، في كل أمر من أموره، وفي كل آية من آياته، وفي كل اشارة من اشاراته، وفي كل معني من معانيه، وجعله معجزة أبدية خالدة علي مر العصور، لا تنتهي عجائبه، ولا يخلق علي كثرة الرد إلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها وصلي الله وسلم وبارك علي خاتم الأنبياء والمرسلين الذي شرفه ربه تبارك وتعالى بوصفه أنه لا ينطق عن الهوي فقال عز من قائل: {وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي علمه شديد القوي} [النجم:3- 5]. اهـ.

.تفسير الآيات (16- 20):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذكر هذه الآية السماوية على سبيل الفرض في الجواب عن إنكارهم النبوة، دليلًا على مرودهم على الكفر، وكان من المعلوم أن ثبوت النبوة مترتب على ثبوت الوحدانية، توقع السامع الفَهِم الإخبارَ عما له تعالى من الآيات المحققة الوجود المشاهدة الدالة على قدرته، فأتبعها بذلك استدلالًا على وحدانيته بما له من المصنوعات شرحًا لقوله: {وليعلموا أنما هو إله واحد} [إبراهيم: 52]، ودليلًا على عدم إيمانهم بالخوارق، وابتدأ بالسماويات لظهورها لكل أحد وشرفها وظهور أنها من الخوارق بعدم ملابستها والوصول إليها، فقال مفتتحًا بحرف التوقع: {ولقد حعلنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر عليها سوانا مما هو مغنٍ عن فتح باب ونحوه {في السماء بروجًا} أي منازل للقمر، جمع برج، وهو في الأصل القصر العالي أولها الحمل وآخرها الحوت، سميت بذلك لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها، وهي مختلفة الطبائع، فسير الشمس والقمر بكل منها يؤثر ما لا يوثره الآخر، فاختلافها في ذلك- مع أن نسبتها إلى السماء واحدة- دليل على الفاعل المختار الواحد، والعرب أعرف الناس بها وباختلافها.
ومادة {برج} بكل تقليب تدور على الظهور الملزوم للعلو الملزوم للقوة، وقد يفرط فيلزمه الضعف، فمن مطلق الظهور: بروج السماء، قال القزاز: سميت بروجًا لأنها بيوت الكواكب، فكأنها بمنزلة الحصون لها، وقيل: سميت لارتفاعها، وكل حصن مرتفع فهو برج، والبرج- أي محركًا: سعة بياض العين وصفاء سوادها، وقيل: البرج في العين هو أن يكون البياض محدقًا بالسواد، يظهر في نظر الإنسان فلا يغيب من سواد العين شيء، وتبرجت المرأة: أبدت محاسنها، والجربياء: الشمال- لعلوها، والجريب: الوادي- لظهوره، والجريب: مكيال أربعة أقفزة، وجريب الأرض معروف، وهو ساحة مربعة كل جانب منها ستون ذراعًا، ومنه الجراب- لوعاء من جلود، والجورب- للفافة الرجل، لأنهما ظاهران بالنسبة إلى ما فيهما، وكذا الجربان- لغلاف السيف، وجرب البئر: جوفها؛ والأرجاب: الأمعاء- شبهًا بالجراب؛ والبارجة: سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال، والبجرة: كل عقدة في البطن، والعجرة: كل عقدة في الجسد، والبجرة: السرة الناتئة، وسرة البعير عظمت أولًا، والبجر والبجري: الأمر العظيم، وجاء فلان بالبجارة، وهي الداهية: وفيه ما جمع إلى الظهور القوة؛ ومن ذلك رجب: اسم شهر، ورجبت الرجل: عظمته، والرجبة من وصف الأدوية، والرجب: الحياء والعفو، والرجب: الهيبة؛ والمجرب: الذي بلي بالشدائد؛ ورجبت النخل ترجيبًا: بنيت من جانبها بناء لئلا يسقط؛ والجبر: خلاف الكسر، والملك- لوجود الجبر به لقوته، وجبرت العظم، والجبارة: ما يوضع على الكسر لينجبر، وجبرت الرجل: أحسنت إليه، وأجبرته: ضممته إلى ما يريد، وأجبرته على كذا: قهرته عليه، أي أزلت جبره، والجيرية: العانة من الحمير، وهي أيضًا الأقوياء من الناس، والجبار من النخل: الطويل الفتي، والجبار اسم من أسماء الله تعالى، والجبار: كل عات، وكل ما فات اليد، والعظيم القوي الطويل، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا والمتجبر: الأسد، وجبار بالضم مخففًا: يوم الثلاثاء- لأن الله تعالى خلق المكروه فيه- كما في الصحيح، ومن الضعف: الجبار- بالضم مخففًا، وهو الهدر من الدماء والحروب وغيرها، وقد يكون من جبر الكسر، لأنه جبر به المهدر عنه وقوي به وأحسن إليه، وكل ما أفسد وأهلك فهو جبار- كأنه شبه بالجبيرة التي تفسد لإصلاح الكسر، والجبر: العبد- لضعفه واحتياجه إلى التقوية؛ ومن الضعف أيضًا الجرب بالنسبة إلى من يحل به، وهو من القوة بالنسبة إلى نفسه، ومن الظهور والانتشار أيضًا، والجرباء: السماء- تشبيهًا بالأجرب، وأرض جرباء: مقحوطة؛ والتربج: التجبر، والروبج: درهم صغير؛ قال الزبيدي: وهو دخيل، ومادة {جبر} منها بخصوص ترتيبها تدور على النفع، وتارة تنظر إلى ما يلزمه من عدم الضر مثل الجبار بالضم مخففًا لما هدر، وتارة تنظر إلى ما يلزم النفع من التكبر والقهر.
ولما ذكر البروج، وصف سبحانه السماء المشتملة عليها فقال: {وزيناها} أي السماء لأنها المحدث عنها بالكواكب {للناظرين} أي لكل من له أهبة النظر، في دلائل الوحدانية، لا عائق له عن معرفة ذلك إلا عدم صرفه النظر إليه بالبصر أو بالبصيرة {وحفظناها} أي بما لنا من العظمة {من كل شيطان} أي بعيد من الخير محترق {رجيم} مستحق للرجم وهو رمي الشيء بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة كالقوس فإنها للرمي لا للرجم ومستحق للشتم، لأنه قوال بالظن وما لا حقيقة له {إلا من استرق السمع} منهم فإنا لم نرد تمام الحفظ منه {فأتبعه} أي تبعه تبع من هو حاث لنفسه سائق لها {شهاب} وهو عمود من نور يمتد بشدة ضيائه كالنار {مبين} يراه من فيه أهلية الرؤية حين يرجم به؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- يبلغ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذه ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقي السمع ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر- ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابعه اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض- فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى بلغوها إلى الأرض، وربما قال سفيان: حتى ينتهي إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبه فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقًا للكلمة التي سمعت من السماء.
قال المفسرون- رضي الله عنهم-: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات فيلقون ما يسمعون منها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم منعوا من السماوات كلها هكذا رأيت ولد ولعله بعث فإن في الصحيح أن الذي منعهم نزول القرآن.
ولما ذكر آية السماء، ثنى بآية الأرض فقال: {والأرض مددناها} أي بما لنا من العظمة، في الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، على الماء {وألقينا} أي بعظمتنا {فيها} أي الأرض، جبالًا {رواسي} أي ثوابت، لئلا تميل بأهلها وليكون لهم علامات؛ ثم بنه على إحياء الموتى بما أنعم به في الأرض بقياس جلي بقوله: {وأنبتنا فيها} أي الأرض ولاسيما الجبال بقوتنا الباهرة {من كل شيء موزون} أي مقدر على مقتضى الحكمة من المعادن والنبات {وجعلنا لكم} أي إنعامًا منا عليكم {فيها معايش} وهي بياء صريحة من غير مد، جمع معيشة، وهي ما يحصل به العيش من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها {ومن لستم} أي أيها الأقوياء الرؤساء {له برازقين} مثلكم في ذلك، جعلنا له فها معايش من العيال والخدم وسائر الحيوانات التي تنتفعون بها وإن ظننتم أنكم ترزقونهم، فإن ذلك باطل لأنكم لا تقدرون على رزق أنفسكم فكيف بغيركم؟. اهـ.